تقاطعات و مفترقات “العقد الاجتماعي الجديد” المنتظر و « العقد الدولي » الراهن؟
د.رضا الفلاح
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ابن زهر بأكادير
إن ما يجب التفطن إليه في سياق النقاش الدائر حول صياغة النموذج التنموي الجديد بالمغرب هو ارتباط هذه المسألة في زمن العولمة و هيمنة قوى السوق الحرة بمحددات خارجية ، و بالتالي فهي تتحول إلى شأن دولي أكثر منه داخلي دون أدنى مبالغة. و مما لا جدال فيه أن أي بديل تنموي يتم اختياره يقابله على واجهة السياسة الدولية موقف معين تتخذه القوى الرأسمالية دولا أو منظمات كانت أو شركات عالمية اتجاه الدولة المعنية. هذا الموقف تكون له تداعيات إيجابية أو سلبية على الصعيد الاقتصادي و على صعيد الإستثمارات الدولية، بل و قد يصل أثره إلى الحالة الأمنية و الاستقرار السياسي و السلم الاجتماعي في هذا البلد.
من خلال تحليل مضمون الخطب الملكية الأخيرة نجد أن الرسائل الموجهة للداخل تقابلها إشارات موجهة إلى الخارج، و لو أنه من الصعب رسم حدود الفصل بين الرسائل الموجهة للداخل و تلك الموجهة للخارج، غير أن التأكيد على الدور المناط بالقطاع الخاص و المبادرة الخاصة و تشجيع الاستثمارات الخارجية و التوجيهات المتعلقة بعقلنة طرق تدبير الإدارة و المرافق العمومية يؤكد بوضوح عزم المملكة المغربية على تكريس التوجهات الاستراتيجية المتعلقة بالنموذج الاقتصادي الحر و المنفتح على الأسواق الخارجية و الانخراط بشكل أسرع في المشروع الليبرالي العالمي. غير أنه و بالموازاة مع ذلك، يتبين من خلال السياسة الخارجية المغربية في العقد الأخير أن المحدد الاقتصادي الداخلي أخذ على عاتقه مهمة جسيمة تتمثل في وضع الاقتصاد الوطني غير القائم على النفط على سكة جديدة أو بعبارة أخرى ترجمة تطلعات المملكة إلى تحسين تموقعها في الاقتصاد العالمي أو في إطار ما يسمى بالتقسيم الدولي للعمل، و ذلك في مقابل كسب ثقة القوى المتحكمة في النظام الاقتصادي العالمي من أجل دعمه في خيارات جديدة و طموحة سواء في سياسته الخارجية اتجاه إفريقيا أو تعزيز قدرته في التعويل على علاقات متميزة مع أقطاب دولية كبرى، أو في فتح جبهات دبلوماسية جديدة.
بشكل أدق ، يتطلع الاقتصاد الوطني إلى الاستفادة من تموقع المملكة كبوابة و كمنصة و كفاعل في هذا المشروع المعولم الذي تشارك فيه كذلك دول البريكس BRICS (الصين و روسيا و الهند و البرازيل). و على هذا المستوى بالتحديد يمكننا تفسير الاستثمارات الكبرى في البنيات التحتية اللوجيستيكية و الطاقية ذات البعد الاستراتيجي مثل ميناء طنجة المتوسط و ميناء الناظور المتوسط و القطار الفائق السرعة و محطات الطاقات المتجددة خاصة محطات الطاقة الشمسية نور بورزازات، و كل المشاريع التي انطلق تنفيذها بجهات الصحراء خاصة ميناء الداخلة الأطلسي الجديد و الطريق السريع بين تيزنيت و الداخلة في إطار تفعيل النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية (بميزانية تقدر بحوالي 80 مليار درهم). و في نفس السياق، رأينا أن الاستفادة من هذا التموقع في ميزان القوة العالمي قد اقترن برسم استراتيجية الترابط Connectivness strategy في مجال الاتصالات و التكنولوجيات الرقمية الحديثة من جهة و استراتيجية تعزيز حضور البنية التحتية البنكية والمالية Financial Infrastructure من جهة ثانية في الاقتصاديات الإفريقية. و لا غرابة أن نقف على مدى أهمية هذين القطاعين في السياسة الإفريقية للمغرب بالنظر لدورهما في دعم الترابطات بين المغرب و محيطه الإفريقي، دون أن ننسى مشروع أنبوب الغاز بين نيجيريا و المغرب و الذي يعرف تقدما في خطواته الأولى علما أن نجاح مشروع بهذا الحجم و بهذه الأهمية الجيواستراتيجية يحتاج إلى دعم دولي قوي بالخصوص من قبل القوى الكبرى و الشركات العملاقة العاملة في هذا القطاع و هو ما يضمن على الأقل تحييد العراقيل التي قد تضعها أجندات معاكسة، نظرا لحساسية المسألة و ارتباطها بالنزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية.
و في المقابل، يأتي التأكيد على فشل النموذج التنموي و على كل الأخطاء و كل الإحباطات الاجتماعية المرتبطة بالعدالة التوزيعية و المجالية باعتباره خطابا موجها إلى الداخل يتطابق مع الواقع و مع انتظارات المواطنين خاصة و أن المغرب يعرف أسوأ و أعلى معدلات التفاوت الاقتصادي في شمال إفريقيا وفقا لدراسة حديثة من إنجاز منظمة التعاون و التنمية الاقتصادية OECD. و في نفس الوقت، يتقاطع هذا الخطاب و يسند من خلاله خطابا آخر يؤكد فيه الملك على الضرورة الملحة لضخ دماء جديدة في الأحزاب السياسية بل و التشديد على فجوة الكفاءة داخلها، و المناداة بتعديل حكومي وشيك يفسح مجالا أوسع للكفاءات التقنوقراطية من خارج الأحزاب السياسية. و تتطابق هذه الرسالة مع الاعتماد الواضح و المتزايد للنموذج اللاقتصادي الليبرالي في العالم على صناع قرار قادمين من خارج النسق الحزبي.
إن المؤسسة الملكية واعية بمدى صعوبة التوفيق بين ما يقتضيه بناء نموذج متماسك للتنمية الاجتماعية من جهة و التغلب على الإكراهات الهيكلية التي تفرضها قواعد و مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي من قبيل صندوق النقد الدولي و منظمة التجارة العالمية و الاتفاقيات الدولية ذات البعد الاقتصادي من جهة ثانية. لا سيما و أن هذه الإكراهات تشكل كلفة من الضروري أن يتحملها المغرب في سبيل الحصول على أهداف سياسته الخارجية الاقتصادية في إطار استراتيجية التموقع الدولي المشار إليها أعلاه. من هذا المنطلق، يمكننا استشعار صعوبة المعادلة التي يراد حلها و التي يمكن تلخيصها في السؤال التالي: كيف يمكن بناء نموذج تنموي اجتماعي في ظل نموذج اقتصادي غير اجتماعي؟ إن الرهان المعقود على اللجنة الخاصة المزمع تنصيبها بهدف حل هذه المعضلة هو بالتحديد وضع النموذج المنتظر الذي قال عنه الملك محمد السادس أنه سيؤسس لعقد اجتماعي جديد و هو ما يعني ضمنيا تآكل العقد الاجتماعي الذي تم تجديده مع إقرار دستور 2011 في ظل تصاعد الفعل الاحتجاجي بالمغرب خلال السنوات الأخيرة.
إذا كانت لجنة 2011 التي تم تكليفها بوضع مشروع الدستور الجديد استطاعت أن تحرر وثيقة إصلاحية تحافظ في نفس الوقت على جوهر التوافقات التي طبعت ميزان القوة السياسي في المغرب، فإن لجنة 2019 ستكون أمام خيارين أحلاهما مر. الخيار الأول يتمثل في تبنى وصفة الدولة الاجتماعية Walfare State التي ترفع من إنفاقها العمومي و ترصد ميزانيات ضخمة للقطاعات الاجتماعية و تعمل على إعادة توزيع الدخل لصالح الفئات الفقيرة بواسطة السياسة الضريبية، مع ما يترتب عن ذلك من تضييق نسبي على حرية الفاعل الاقتصادي في الاستثمار في الخدمات الاجتماعية، أو المس بهامش ربحه، لكنها دولة تذعن لمبدأ ضمان و تيسير النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الذي يتناقض جوهريا مع غايتها الأصلية.
الخيار الثاني هو أن تضع اللجنة مقترحات تندرج في إطار ما يعرف بالحد الأدنى الاجتماعي لضمان المعايير الدنيا للعيش الكريم في إطار عقد بوجهين اجتماعي و دولي يحافظ في الآن ذاته على السلم الاجتماعي و لا يرهن تطلعات المملكة في الساحة الدولية على المدى الطويل. و هو في نهاية الأمر نموذج لا يفصل بين التنمية الاقتصادية و الاجتماعية، بل أبعد من ذلك يعتبر أن التنمية الاجتماعية ستصبح منتوجا أو ثمرة للتنمية الاقتصادية الموسومة بقواعد التحرير و الخوصصة و عدم التسييس.