محاضر الضابطة القضائية في قانون المسطرة الجنائية : حدود الحجية وإمكانات الدفع بالبطلان

مراد علوي

0

 

 

 

 

 

مراد علوي

باحث في العلوم القانونية

بكلية العلوم القانونية و الاقتصادية

و الاجتماعية أكدال الرباط

تعتبر مرحلة البحث التمهيدي من أهم المراحل في الدعوى العمومية، لأنها تشكل المدخل الأساسي لتجميع المعطيات والقرائن التي ستبني عليها النيابة العامة قرار المتابعة، وسيتخذ القاضي على أساسها موقفه في الحكم. ولذلك تبرز أهمية محاضر الشرطة القضائية، فهي الوثيقة الرسمية التي توثق ما عاينه الضابط وما استمع إليه وما باشره من إجراءات. وغالباً ما تكون هذه المحاضر المصدر الأول وربما الوحيد للمعلومة القضائية.

غير أن خطورة هذه المحاضر الضابطة القضائية تكمن في كونها قد تتحول إلى أداة ضغط على المتهم أو وسيلة غير مباشرة للمساس بحقوقه، مما يستدعي إحاطتها بضوابط دقيقة. ولهذا السبب أقر المشرع المغربي آلية الدفع بالبطلان، حتى يضمن أن أي محضر لم يُحرر وفقاً للشرعية الإجرائية لن تكون له أي قيمة في الإثبات.

بناءا على ذلك، فإن إشكالية بطلان المحاضر ليست تقنية فقط، بل هي مسألة تمس جوهر العدالة الجنائية. فإذا كان الهدف من الدعوى العمومية هو البحث عن الحقيقة، فإن هذه الحقيقة يجب أن تُبنى على وسائل مشروعة تحترم القانون والكرامة الإنسانية.

محاضر الشرطة القضائية بين القوة القانونية وحدود الحجية

جاء قانون المسطرة الجنائية ليعطي للمحاضر طبيعة قانونية خاصة، فهي وثائق رسمية، لكن قيمتها في الإثبات تختلف باختلاف طبيعتها. فمن جهة هناك محاضر لها حجية مطلقة مثل بعض محاضر المخالفات الإدارية، ولا يمكن الطعن فيها إلا عن طريق دعوى الزور. ومن جهة أخرى هناك محاضر ذات حجية نسبية وهي الغالبة في الميدان الجنائي. هذه الأخيرة تبقى خاضعة لتقدير القاضي الذي يمكنه أن يأخذ بها أو يستبعدها، وفق ما يراه مناسباً.

هذا التمييز يوضح فلسفة المشرع المغربي، إذ إنه يعترف بأهمية المحاضر كوسيلة عملية لإثبات الجرائم، لكنه في الآن ذاته لا يرفعها إلى مرتبة الدليل القاطع، حتى لا تتحول إلى سلطة مطلقة قد تضر بحقوق المتهم.

وعليه، فإن المحاضر ليست غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة من وسائل الإثبات، قيمتها مرتبطة بمدى مطابقتها للقانون، وإذا فقدت هذه المطابقة فإنها تصبح عديمة الأثر ولو تضمنت وقائع صحيحة.

مبدأ الشرعية الإجرائية وأهميته في حماية الحقوق

إن الشرعية الإجرائية هي الأساس الذي يقوم عليه قانون المسطرة الجنائية، وهي تعني أن كل إجراء يجب أن يتم وفق ما رسمه القانون، وإلا اعتبر باطلاً. وعليه فإن هذه الشرعية ليست مجرد شكليات، بل هي الضامن الحقيقي لتحقيق التوازن بين الدولة في سعيها إلى مكافحة الجريمة وبين الفرد في حمايته من التعسف.

المشرع المغربي أحاط أعمال الشرطة القضائية بجملة من الشروط والضوابط. فمثلاً الوضع تحت الحراسة النظرية محدد بآجال صارمة ويجب أن يتم بإذن النيابة العامة، والتفتيش لا يجوز إلا بإذن مكتوب أو في حالات استثنائية محددة، والاستماع إلى المشتبه فيه يجب أن يتم في احترام تام لحقوقه، مع التنصيص على حقه في التزام الصمت وفي الاستعانة بمحام.

وبالتالي فإن هذه المقتضيات تترجم التزامات المغرب الدستورية والدولية في مجال حقوق الإنسان. وأي خرق لها يؤدي إلى بطلان الإجراء، وهو ما يفتح الباب أمام الدفاع لإثارة الدفع بالبطلان كوسيلة لحماية موكله.

 

صور الدفع ببطلان المحاضر : بين الشكل والجوهر

عادة البطلان قد ينشأ عن إخلالات شكلية، وقد يكون نتيجة انتهاكات تمس الجوهر والحقوق الأساسية.

فمن ناحية، الإخلالات الشكلية تتعلق مثلاً بغياب توقيع الضابط أو عدم ذكر هويته أو صفته، أو إغفال ذكر تاريخ ومكان إنجاز المحضر، أو تحريره من طرف شخص ليست له صفة ضابط شرطة قضائية. هذه العيوب تجعل المحضر فاقداً للقيمة القانونية حتى ولو كانت الوقائع صحيحة، لأن احترام الشكل هنا ضمانة لسلامة الإجراء.

ومن ناحية أخرى، الإخلالات الموضوعية أخطر لأنها تمس جوهر الحقوق. ومن أبرزها بطلان الوضع تحت الحراسة النظرية إذا تم خارج الشروط المقررة، أو تجاوزت مدته دون إذن من النيابة العامة، أو إذا لم يُشعر المتهم بحقوقه الأساسية. وكذلك بطلان إجراءات التفتيش التي تتم دون إذن مكتوب أو خارج الأوقات المسموح بها أو في غياب الضمانات التي تحمي الحياة الخاصة للأفراد.

كما أن انعدام حالة التلبس يشكل سبباً لبطلان المحاضر، لأن التلبس حالة استثنائية تمنح الشرطة القضائية صلاحيات واسعة لا يجوز التوسع فيها. فإذا لم تتوافر شروط التلبس الحقيقية، فإن كل الإجراءات المبنية عليه تعتبر باطلة.

إضافة إلى ذلك، بطلان الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب أو الإكراه يظل من أبرز صور البطلان، حيث أكد القضاء المغربي غير ما مرة أن الاعتراف لا يكون حجة إلا إذا كان صادراً عن إرادة حرة، وأن أي اعتراف تحت الضغط لا قيمة له، بل يمكن أن يؤدي إلى مساءلة من استعمل العنف.

القضاء المغربي ودوره في الرقابة على المحاضر

يبقى القضاء ( الاجتهاد القضائي ) يشكل الحلقة الحاسمة في موضوع البطلان. فعندما يثار الدفع أمام المحكمة، يتعين عليها أن تفصل فيه قبل الدخول في جوهر الدعوى. والمحكمة في ذلك ملزمة بالتحقق من مدى احترام الإجراءات، فإذا تبين لها وجود إخلال جوهري قضت ببطلان المحضر واستبعاده من الملف.

القضاء المغربي عرف حالات كثيرة قضت فيها المحاكم ببطلان المحاضر. فقد أصدرت محكمة النقض قراراً يقضي ببطلان محضر أنجز دون حضور مترجم لفائدة متهم أجنبي، وقراراً آخر ببطلان محضر بسبب تجاوز مدة الحراسة النظرية دون إذن مكتوب من النيابة العامة. هذه الأحكام تؤكد أن القضاء يقوم بدور رقابي فعلي ويمنع أن تتحول المحاضر إلى وسيلة غير قانونية للمساس بحرية الأفراد.

إن النقاش حول بطلان المحاضر لا ينحصر في الجانب القانوني الصرف، بل يمتد إلى أبعاد حقوقية وسياسية أوسع. فالمغرب بعد دستور 2011 التزم بضمان المحاكمة العادلة وصيانة الحرية الفردية، كما صادق على عدة اتفاقيات دولية تفرض احترام حقوق الدفاع وحظر التعذيب.

ومن هذا المنطلق فإن الدفع بالبطلان يصبح جزءاً من التزامات الدولة تجاه مواطنيها وتجاه المنتظم الدولي، لأنه يترجم التوازن بين مقتضيات دولة الحق والقانون ومتطلبات الأمن الجماعي.

إضافة إلى ذلك، فإن النقاش العمومي حول دور الشرطة القضائية في التحقيقات يبين أن مسألة البطلان ليست مجرد آلية مسطرية، وإنما تعبير عن مستوى ثقة المواطنين في المؤسسات القضائية والأمنية. وبالتالي، فإن احترام الضوابط القانونية في تحرير المحاضر لا يعزز فقط حقوق الدفاع، بل يساهم أيضاً في تقوية المشروعية السياسية للنظام القضائي.

بقي أن نشير في الأخير إلا أن إشكالية الدفع ببطلان محاضر الشرطة القضائية تكشف عن صعوبة التوفيق بين حماية الحقوق الفردية وضمان الأمن الجماعي. فمن جهة، المحاضر تعتبر وسيلة ضرورية لمكافحة الجريمة وتوفير معطيات موضوعية للنيابة العامة والقضاء. ومن جهة أخرى، فإن أي إخلال بالشرعية الإجرائية يجعل هذه المحاضر عديمة الأثر، حماية لحقوق الدفاع وتكريساً لمبدأ المحاكمة العادلة.

القضاء المغربي بدوره ساهم باجتهاداته في تكريس هذه الضمانة، لكنه في المقابل أبرز الحاجة الملحة لمزيد من التكوين والتأطير لفائدة ضباط الشرطة القضائية حتى يتفادوا الوقوع في أخطاء شكلية أو موضوعية تُبطل مجهوداتهم.

وعليه، فإن العدالة الجنائية الفعالة لا تتحقق إلا عبر احترام القانون والإجراءات المسطرية، وهو ما يعزز ثقة المواطن في القضاء ويكرس مكانة المغرب كدولة تتبنى قيم حقوق الإنسان في بعدها الكوني والشمولي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.