عبد الهادي بوطالب والعمل الديبلوماسي

0
من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ عبد الهادي بوطالب، قضية العمل الديبلوماسي، وهي قضية جعلته، يؤلف بشأنها كتابا سماه “مسار الديبلوماسية العالمية وديبلوماسية القرن الواحد والعشرين’.
الاهتمام الديبلوماسي للأستاذ عبد الهادي بوطالب، له جذور، فهو على علاقة بنضاله في الحركة الوطنية وبالاتصالات التي أجراها صحبة العديد من القادة الوطنيين مع العديد من المؤسسات في الخارج دفاعا عن استقلال المغرب وسيادته حيث كان عضوا في الوفد المغربي الذي عرض القضية المغربية أمام الأمم المتحدة في باريس، كما له علاقة بتعيينه سفيرا بدمشق سنة 1961، وتكليفه رسميا من طرف الملك الحسن الثاني للقيام بدور الوساطة بين سوريا ومصر، اللتين طلبتا ذلك من المغرب، حيث كانت الوحدة بين البلدين مهددة.
وقد تعمق اهتمامه هذا، العملي أو الميداني، بالعمل الفكري والأكاديمي، حيث ابتداءً من سنة 1971 انخرط الأستاذ عبد الهادي بوطالب في سلك التعليم العالي، أستاذا محاضرا في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية.
وإذا كان الأستاذ عبد الهادي بوطالب قد تحمل مسؤولية عدة وزارات، بدءًا بأول حكومة بعد الاستقلال في 7 دجنبر 1955، فقد تولى من سنة 1966 إلى سنة 1969، مسؤولية وزارة الخارجية. هذه المسؤولية، فتحت له آفاقا واسعة في مجال العمل الديبلوماسي وفي مجال العلاقة مع المنظمات الدولية وغيرها من آليات العمل الديبلوماسي.
ومن وزارة الخارجية إلى اختياره سفيرا للمغرب بواشنطن، حيث كلفه الملك الراحل الحسن الثاني، بهذه المهمة للدفاع عن قضية الوحدة الترابية، إذ كان المغرب يحضر آنذاك لتنظيم مسيرة سلمية نحو الصحراء. وفي واشنطن التي تولى فيها بوطالب سفارة المغرب ابتداء من نهاية 1974 إلى سنة 1976، نسج هناك عددا من العلاقات وتعرف على الديبلوماسية الأمريكية، حيث يقول في هذا الصدد : ” قدمت أوراق اعتمادي إلى الرئيس جيرالد فورد الذي خلف الرئيس ريتشارد نيكسون بعد فضيحة ووترغيت. وأصبحت أرتبط بصداقات وأُنوِّع اتصالاتي بالوزراء وفي طليعتهم هنري كيسنجر، ومساعده جوزيف سيسكو، ونائب وزير الدفاع بالبنتاغون كليمونت وبأعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس. وكان حديثي إليهم متصلا دائما بقضية الصحراء والنزاع العربي الإسرائيلي. وكلما مر شهر أو شهران كان الملك يطلب مني القدوم إلى الرباط ثلاثة أو أربعة أيام أحضر فيها مجلسه مع خاصته، وأُطْلعه على الأوضاع في الولايات المتحدة وألخص له التقارير التي كنت أبعثها لوزير الخارجية”.
والجدير بالذكر، أن التجربة الديبلوماسية للأستاذ عبد الهادي بوطالب ينبغي أن تدرس وتجارب عدد من الديبلوماسيين المغاربة، حتى يقتدي بها الجيل الجديد من الديبلوماسيين المغاربة وحتى نستلهم من ذلك كيف يمكن للمغرب اختيار ديبلوماسييه. فاختيار الأستاذ عبد الهادي بوطالب سفيرا للمغرب في واشنطن لم يكن اختيارا عشوائيا بل كان اختيارا استراتيجيا يدخل ضمن رؤية الملك الحسن الثاني للدفاع عن الوحدة الترابية للمغرب، ويمكن القول على سبيل المثال، أن اختيار السيد يوسف العمراني على سبيل المثال، سفيرا في جنوب أفريقيا يمثل جزءا من هذه الرؤية التي ينبغي أن تستمر وأن تتواصل وأن نخرج من التعيينات التي تندرج في إطار العلائق الزبونية أو العائلية، لأن السفير ينبغي أن يتوفر على عدد من المؤهلات وعلى الكفاءة والتجربة التي تمكنه من الدفاع عن مصالح المغرب السياسية والاقتصادية والتجارية، خاصة في الظروف الراهنة.
ويعرض الأستاذ عبد الهادي بوطالب كيف تشتغل الديبلوماسية الأمريكية في كتابه “نصف قرن في السياسة” والتي يمكن أن نقتدي، على الأقل، ببعض آلياتها، والتي تتطلب الجدية والالتزام والوطنية والمسؤولية. يقول الأستاذ عبد الهادي بوطالب في هذا الصدد : “أذكر أنني من خلال ترددي على وزارة الخارجية طيلة أيام المسيرة الخضراء -إما بطلب مني أو بطلب منهم- لمست كيف تمارس الديبلوماسية الأمريكية تنظيم شأن التعاون الدولي : إنها تقسِّم العالم إلى مناطق، وتُقسم كل منطقة إلى مناطق فرعية. ولكل سفارة ممثَّلة في واشنطن مكتب خاص في وزارة الخارجية على رأسه موظف مسؤول عن كل دولة يسمى THE DESK ، وزرت مكتب المغرب بوزارة الخارجية الأمريكية لأول مرة حينما قدمت أوراق اعتمادي إلى الرئيس جيرالد فورد سنة 1974، وهو مكتب يديره مسؤول سام يعرف ملف البلد الذي يُسمَّى على رأس مكتبه لرعايته، وتوضع في المكتب صورة رئيس الدولة. وحينما يُعيِّن السفير الجديد توضع فيه أيضا صورته بدل السفير المغادر. ومهمة هذا المسؤول الأمريكي محددة، فهو يوضع رهن إشارة السفير المعتمد ليكون في خدمته ورهن إشارته؛ خاصة في الأغراض الخاصة ويستقبل السفير ويسعى هو إليه أيضا للسفارة عند الاقتضاء للتحاور مع السفير في قضايا بلاده. وأذكر أنني عندما كنت أذهب لمقابلة هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي، كان يحضر بجانبه نوابه المختصون مثل جوزيف سيسكو، وأَلْفرد أثرثون الذي عين فيما بعد سفيرا بالقاهرة ثم في إسرائيل. وخلال اللقاء يحضر الموظف المسؤول عن الملف الإسباني، والآخران المسؤولان عن الملف الجزائري، والمكلف بموريتانيا (لكون الجزائر معنية بقضية الصحراء ولكون موريتانيا شريكة). ويسجل هؤلاء الموظفون السامون محضر الجلسة. والغريب في الأمر أنني كنت أتلقى مكالمات هاتفية من سفير الولايات المتحدة في الرباط نْيُومان ليتحدث لي فيها عما دار بيني وبين الوزير في اللقاء ويعلق على ما وصله. وهذا يعني أن الخارجية الأمريكية تبعث في نفس اليوم تقارير دقيقة إلى سفرائها المعنيين بالموضوع ليكونوا على إطلاع كامل على مجريات الأمور. تلك طريقة عملهم وكم هي رائعة في تدقيقها وفي استعمال الوقت وضبط الأمور بشكل ما أحوج ديبلوماسيتنا إليه. ولاشك أنهم عندما يخرج السفير من مكاتبهم يعقدون اجتماعا، وتأتيهم تقارير من سفرائهم في الخارج، وعلى إثر ذلك كله تُتخذ القرارات، فالأمور تُتابع بدقة وبأسلوب دبلوماسي متقن بالغ التقنية.
وقد تعمقت التجربة الديبلوماسية للأستاذ عبد الهادي بوطالب، حين تولى مسؤولية، مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ‘الإيسيسكو” لمدة عشر سنوات، بدءًا من سنة 1982، حيث بالرغم من إدارته لهذه المنظمة، كان يكلفه الحسن الثاني بمهمات لدى رؤساء وملوك عدد كبير من الدول العربية والإسلامية، خاصة وأن الأستاذ عبد الهادي بوطالب، معروف عنه، حين كان مستشارا لجلالة الملك، بتوليه لمهام العلاقات العربية والإسلامية، وخاصة قضايا المشرق العربي.
وفي كتابه المشار إليه، “مسار الديبلوماسية العالمية أو ديبلوماسية القرن الواحد والعشرين”، يقدم الأستاذ عبد الهادي بوطالب عددا من التوجيهات التي يمكن الاسترشاد بها لتطوير العمل الديبلوماسي في المغرب، وهكذا ففي هذا الكتاب، يتحدث الراحل عن المسار التاريخي للديبلوماسية العالمية، وأساليب الديبلوماسية العالمية في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، كما يتحدث عن مجال الديبلوماسية العالمية ووسائل عملها، وعن ديبلوماسية المغرب الحديث، وكيف يمكن لهذه الديبلوماسية أن تخدم إرساء اتحاد المغرب العربي.
وإذا كانت بعض القضايا المتداولة في هذا الكتاب تحتاج إلى تحيين، فإن عددا من الأفكار يمكن عرضها هنا خاصة فيما يتعلق بأبعاد الديبلوماسية وكيف يمكن تفعيل العمل الديبلوماسي وتطويره، إذ بخصوص البعد الدولي يقول الأستاذ عبد الهادي بوطالب : “وأعني بالحضور الدولي المخطط الفعال لديبلوماسية المغرب داخل المنظمات الدولية والجهوية حضورا لا يكتفي بالتمثيل، بل تقدم فيه ديبلوماسيتنا عطاءها الخاص، وتعتبر نفسها مسؤولة عن المساهمة في ابتكار الحلول للمشاكل الدولية، وتعمل للتدليل على قدرتها على ذلك.
ومما ينبغي لديبلوماسيتنا تحقيقه في فضاءات هذه المنظمات تزويدها بالأطر المغربية ذات الكفاءة والخبرة، وحث الدبلوماسيين المغاربة على الالتحاق بها وتأهيلهم من قبل لذلك. وإنه لغير مقبول أن يجتر الديبلوماسي عادة المغاربة في الخلوة والانحباس في مساكنهم وداخل وطنهم، بل عليهم التحرر منها عندما يجدون أنفسهم في الخارج.
هناك ثغرة يجب سدها لإقامة ديبلوماسيتنا في القرن الحاضر على ركيزة الديبلوماسية العالمية المتقدمة التي لا تعمل ديبلوماسيتنا بوسائلها المتطورة. إنها فقد مادة التكوين الديبلوماسي في معاهدنا العليا وجامعاتنا. وكما قلنا في البداية إن الديبلوماسية ابتدأت ممارسة وتحولت إلى فن، وأصبحت في منتصف القرن المنصرم علما قائما بذاته إن لم يكن من العلوم المنضبطة فهو من العلوم الإنسانية التي لها مع ذلك قواعد وضوابط وأحكام.
وكل شئ يحتم علينا سد هذه الثغرة بخلق المعهد الأعلى للديبلوماسية، أو توسيع دائرة الشعبة التخصصية في الجامعة لتكوين الديبلوماسيين وتسليحهم بقواعد المعرفة الديبلوماسية. وما علينا إلا أن نتبنى البرامج المخصصة لهذا التخصص العلمي في الجامعات والمعاهد الغربية التي سبقتنا في هذا المضمار.
وإلى ذلك الحين ينبغي أن يُعطى لمرشحينا لإدارة بعثاتنا الديبلوماسية في الخارج تكوين سريع بوزارة الخارجية يلقنه الخبراء في علم الديبلوماسية. ولا يلتحق ديبلوماسيونا بمناصبهم إلا بعد الفوز بالنجاح في الامتحان.
إنه لا يكفي في اختيار الديبلوماسي أن يكون حاصلا على إجازة أو دكتوراه في إحدى شعب المعرفة، وهو يجهل كل شئ عن القواعد التي تحكم مهنته وتوجهها. وحتى الخبراء المتخصصون في الشؤون الاقتصادية والمعلوماتية مثلا هم في حاجة إلى معرفة السمات والخصائص التي يجب أن يتوفر عليها الديبلوماسي، لتوفر له الانخراط في الديبلوماسية بدراية بل وبحصانة تقيه الوقوع في المزالق التي يقع فيها ديبلوماسيون علماء يجهلون طرق التعامل الديبلوماسي، مما يترتب عليه أحيانا خلق حادث ديبلوماسي يعكر علاقات بلاد المبعوث السياسي إلى عاصمة ما مع الدولة التي هو معتمَد لديها.
وإذا كانت الديبلوماسية الحديثة أصبحت تجنح إلى التخفيف من أعباء قواعد “البروتوكول” التي كانت تميز مهنة الديبلوماسية عن سائر المهن، فما زال احترام تلك القواعد أو الإخلال بها من لدن السفراء والمبعوثين يتحكم في تصنيف المبعوثين، وإيلائهم المكانة العليا أو الدنيا التي يستحقونها، على ضوء تصرفاتهم وسلوكاتهم البشرية داخل الدولة المعتمدين لديها.
لذا لابد أن يتلقى الموظفون العاملون في السفارات والبعثات –ضمن التكوين السريع- مبادئ التخلق الديبلوماسي وقواعد “البروتوكول” المعمول بها في العالم الديبلوماسي، بدءًا من رئيس البعثة وزوجته، مرورا بسائر الموظفين العاملين معه والمشتغلين في السفارات بالاستقبال وترتيب البروتوكول في الحفلات، وانتهاءً إلى الطباخ ومقدمي الطعام والشاي، دون أن نغفل عن إعطائهم تربية إتقان الخدمة. فطريقة العطاء تفوق العطاء نفسه كما يقول الفرنسيون.
وقبل ذلك لابد أن يطلع المبعوث الديبلوماسي أثناء مرحلة تكوينه السريع على ملف علاقات المغرب بالدولة التي سيمارس فيها مهمته، ويتعرف على الوثائق التي تمكنه من الاطلاع على القضايا المغربية الحيوية التي تأخذ باهتمام بلاده، ليتمكن من الدفاع عنها لدى الدولة المبعوث إليها بدراية وكفاءة واقتدار.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، تقوم لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ بإجراء اختبار للسفير المرشح قبل الموافقة على تسميته، وتوجه له أسئلة عن البلاد التي سيعمل بها، وخصائصها، وقضاياها، لاختبار مستوى معرفته لأوضاعها، وتقبل أو ترفض ترشيحه للمنصب على ضوء أجوبته صوابا أو خطأ.
ومرة سُئل سفير أمريكي مرشح عن اسم رئيس الدولة التي رشحته وزارة الخارجية للعمل بها فلم يعرفه، وسقط في الامتحان وسحبت الوزارة ترشيحه
والمطلوب من وزارة خارجية المغرب أن تجهز مركزها الرئيسي بالرباط والمرافق التابعة لها بالخارج بأدوات الاتصال التكنولوجي السريع، لتعمل بوتيرة سرعة العصر الذي قلص البعد البشري في التعامل لفائدة التجهيز الآلي الإلكتروني. وبغير ذلك لا يمكنها أن تخوض سباقها مع الديبلوماسيات العصرية بوسائل غير متكافئة.
وإذا كان هذا يتطلب نفقات مالية باهظة، فإن مراجعة نفقات ميزانية وزارة الخارجية وترشيدها سيمكنانها من الصرف على هذا الباب من نفقات أخرى مرصودة في ميزانيتها لبناء وتأثيث سكن السفراء ومكاتب السفارة على النمط المغربي العتيق مما كان يعتبر ميزة مغربية تلفت الأنظار، ولكنه أصبح غير ضروري أمام الأسبقية التي يجب إعطاؤها للتجهيز الآلي، وتأمين عمل الديبلوماسية بأساليب العصر التي لاستعمالها مردودية مؤكدة على تطوير النشاط الدبلوماسي وفعالياته.
وأخيرا، فإن الديبلوماسية المغربية محكوم عليها في عالمنا أن تعمل بشفافية، وأن تكون رهن إشارة الإعلام لينقل وجهة نظرها ويعرف بمواقفها من القضايا التي تعالجها. ونحن نرى الرئيس الأمريكي يواجه الصحفيين في حديقة البيت الأبيض مرة أو مرتين في اليوم الواحد ليتحدث أمام أجهزة الإعلام العالمي، أو يكلف بهذه المهمة الناطق باسمه، لأن الديبلوماسية العالمية اليوم هي الديبلوماسية الإعلامية وليست الديبلوماسية الخرساء التي لا يُسمع لها صوت، وبالتالي لا يُعرف لها موقف أو اتجاه.
إذن جدير بأن يسترشد الديبلوماسيون بهذه الأفكار والتوجيهات، والأجدر أيضا، الاطلاع على التجارب الناجحة لديبلوماسيين مغاربة ومن بينهم الأستاذ عبد الهادي بوطالب.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.